كيف تكتب مقالاً علميا بالعربية ؟
للدكتور عبده الراجحي - رحمه الله تعالى
الكتابة «أنواع» متعددة؛ فهناك الكتابة الشخصية حين يكتب «شخص»مذكراته الخاصة، أو يكتب إلى صديق، أو يعبر عن انطباعات معينة في موقف ما أو عن مسألة، وهناك المقال الصحفي الذى يعبر عن رأي أو اتجاه، وهناك الكتابة الأدبية من شعر ومسرح ورواية وقصة ... إلخ. ولكل نوع من هذه الكتابات «بنيتها» الخاصة، ومعجمها الخاص، وتراكيبها.
والمقال «العلمي» نوع من أنواع الكتابة له أيضاً خصائصه التي يجب أن تعرفها، وتتقنها، وأنت حين تكتب مقالاً علمياً أو بحثاً موجزاً عن موضوعٍ ما، أوتقريراً علمياً عن تجربة أجريتها في مختبر، أو عن بحث «ميداني»في موضوع اجتماعي أونفسي أوغير ذلك.. إنما تكتبه لتقدمه لأستاذك أو لأحد المتخصصين في الميدان، ومن ثم فإن المقال العلمي لابد أن يلتزم الخصائص الآتية:
1- أنه مقال «غير شخصي» لا تظهر فيه الاتجاهات الشخصية من حب أو كره أوتعصب أوغير ذلك.
2- ومن ثم فهو مقال «محايد» يخلو من النغمة الخطابية والتعبيرات الانفعالية والألفاظ الرنانة.
3- وهو لذلك ذو طبيعة «شكلية»formal يلتزم الأشكال المتعارف عليها في الفرع العلمي الذى تكتب فيه.
4- إن هذا الالتزام يرفض أنه يخلو المقال من «الحشو»redundancy والتزيد والمبالغة والاستطراد؛ كل ما فيه يجب أن يكون متصلاً بالموضوع relevant.
5- كل ذلك معناه أن المقال العلمي يجب أن يكون «موضوعيا»objective وليس «ذاتياً»subjective .
* * *
والمقال العلمي، أو البحث الموجز الذي يطلب منك في دراستك الجامعية، وسوف يكون ركنا أساسيا في دراستك العليا، قد يحتوي على صفحة واحدة، أوصفحتين أوعدة صفحات، ولا يمكن لك أن تكتبه من أوله إلى آخره متصلا كأنه قطعة واحدة، بل لابد أن يقسم إلى عدة «فقرات». فما الفِقْرة؟ وكيف تكتبها؟
الفقرة قطعة واحدة، متصلة، تترابط فيها الجمل، عن فكرة واحدة، ومعنى ذلك أنك تقسم مقالك إلى «أفكار» رئيسية، قد تتفرع عنها أفكار جزئية، وعليك أن تخصص لكل فكرة رئيسية فقرة واحدة تقدمها فيها.
والفقرة عادة تتكون من عدد متصل من الجمل، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
1- جملة رئيسية أوجملتان؛ تقدم فيها الفكرة الرئيسية، وتحدد مجال الفكرة، وهي جملة «تقريرية» بطبيعتها، أي لا يجب أن تكون جملة انفعالية كالتعجب، ولا تكون جملة استفهامية.
2- جمل «داعمة» تشرح الجملة الرئيسية عن طريق تقديم الأمثلة، والإحصاءات، والاستشهادات، والأسباب.
3- جملة خاتمة، تلخص فيها مجمل الفقرة، وتبرز النقاط التي تريد التركيز عليها.
وكل فقرة يجب أن تتسم «بالوحدة»؛ أي تكون مقصورة على فكرة واحدة، كما تتسم «بالتماسك»، وسوف نشرح كل ذلك في كتابة المقال كاملا.
* * *
المقال العلمي إذن يتكون من عدة فقرات؛ وإذا كانت الفقرة لا تحتوي إلا على«فكرة»واحدة، فإن المقال أيضا لا ينبغي أن يحتوي إلا على موضوع واحد.
وما قيل عن «بنية» الفقرة يقال أيضا عن «بنية» المقال؛ فهو يتكون من ثلاثة أجزاء:
1- مقدمة المقال.
2- جسم المقال.
3- الخاتمة.
1- المقدمة : وظيفتها «التعريف» بالموضوع، وتحديد «مجاله»، ثم خطة البحث ومحتوياته، فماذا نعني بكل ذلك؟
إذا طلب منك أن تكتب مقالا عن «الطاقة» مثلا، فإنك تبدأ مقدمة بحثك بالتعريف «بالطاقة» ماذا يقصد بها باعتبارها مصطلحاً عند أهل الاختصاص.
غير أنك لا تستطيع أن تكتب مقالا عن «الطاقة» بصفة عامة، بل لابد أن تحدد مجال موضوعك: عن أيّ نوع من الطاقة سوف تكتب؟ الطاقة الشمسية، أو التعدينية، أوالمائية، أوالهوائية، أوالنووية... وهكذا. إن تحديد المجال في مقدمة مقالك أمر ضروري حتمي.
ثم تقدم خطتك في العرض، ومحتويات المقال، ومن الواضح أن المقدمة لابد أن تكتب في أسلوب تقريري على ما ذكرنا.
2- جسم المقال : وهو «صلب» المقال، وفيه «المعالجة» الكاملة لموضوعك، وهو يتكون من عدة فقرات، ولابد أن يكون «منظَّماً» يحكمه «تنظيم»دقيق، وهذاالتنظيم يكون في الأغلب:
أ - تنظيماً تاريخياً بأن تقدم لمحة تاريخية عن موضوعك، أوتتحدث عن«جهاز» معين من حيث تصميمه الأول وتطوره، أوإجراءات تجربة معينة عبر الزمن.
ب - تنظيماً منطقياً «يصنف» عناصر الموضوع، ويضم كل مجموعة مترابطة معًا، ويناقش كل مجموعة تلو الأخرى.
جـ - تنظيماً مقارنا يسعى إلى الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين العناصر
وتحليلها.
وجسم المقال هو الذي يحتوي على الفقرات «الداعمة» التي تقدم الأمثلة، والوقائع، والإحصاءات، والاستشهادات، وهذه وظيفة مهمة جداً لجسم المقال؛ فالملاحظ أن المقال العلمي عند المبتدئين يفتقد القدرة على «إثبات»التقارير التي عرضوها في المقدمة، ومن ثم تغلب على كتابتهم«التعميمات» و«الآراء»، وكل ذلك منافٍ لطبيعة المقال العلمي.
وأنت مطالب إذن أن «تدعم» عرضك بأشياء مهمة، منها:
1- الأمثلة الواقعية؛ فالوقائع هي المطلوبة دائماً في العلم، وهي تعبير«موضوعي»عن الحقيقة.
2- الإحصاءات التي تكشف أن في يدك «معطيات» مجموعة جمعاً علمياً، يمكن تقديمها، وتفسيرأرقامها.
3- الاستشهادات، إذ لا يوجد باحث يعمل في فراغ، أو من غير سبق، بل كل باحث إنما يمثل حلقة واحدة في سلسة طويلة من الباحثين، ومن ثم لابد أن تدعم مقالك باستشهادات من السابقين عليك.
وأمامك فى الاستشهاد طرق مختلفة :
أ - أن تستشهد بكلام لأحد الباحثين استشهاداً حرفياً مباشراً دون تغيير في شيء منه، وهنا تقول مثلاً؛ قال فلان، أوأشار فلان، أو غير ذلك من العبارات [ثم تكتب فاصلة] ثم لا بد أن تضع علامات التنصيص «» في أول الأقوال المستشهد بها، وفي آخرها. فإذا كان المنقول أكثر من فقرة.. وضعت علامات التنصيص أول كل فقرة، ثم في نهاية النص المستشهد به.
وإذا رأيت أن تحذف من الكلام المستشهد به شيئاً لا يفيد عملك.. فيجب أن تبين ذلك بأن تضع نقاطاً بين هلالين هكذا (...)، أما إذا أردت أن تضيف شيئاً من كلامك أنت داخل النص المستشهد به.. فلا يجب أن يختلط به، ومن ثم عليك أن تضعه بين قوسين معقوفين [ ] ثم تستأنف الاستشهاد.
ب - ولك أن تستشهد بكلام أحد الباحثين استشهاداً غير مباشر، بأن تعرضه بلغتك أنت كأن تكون لغة الباحث قديمة أو معقدة التركيب أو لأي سبب آخر، ويجب في هذه الحال ألا تستعمل لفظًا من ألفاظ الباحث أو جمله نصاً.
جـ - ولك أن «تختصر» النص المستشهد به إذا حسبته طويلاً أو أردت أن تبرز المسائل المهمة فيه.
وفي الحالتين الأخيرتين ليس لك أن تستعمل علامات التنصيص «»، لكن لا بد من ذكر «المرجع» الذى استشهدت به.
التوثيق: وظيفته إثبات موضع الاستشهاد، أيْ إن أيَّ نقل تنقله، لا بد أن توثقه بإثبات مصدره، والشائع في الكتابات العربية وضع رقم بعد الاستشهاد ثم كتابة المرجع في هامش الصفحة، فيكون لكل صفحة أرقامها الخاصة، وبعض المجلات العلمية يفرض كتابة الهوامش والإحالات آخر البحث. والطريقة المعتمدة الآن في الغرب، وقد بدأ بعض الباحثين في بلادنا استخدامها- أن يكتب المرجع بعد النقل مباشرة داخل الصفحة؛ بأن تذكر اسم المؤلف والسنة، ثم رقم الصفحة، بين قوسين، هكذا: «...»(فلان، 2004، 115)، والقارئ يعرف الرجوع إلى ذلك بأن يراجع فهرست المراجع فسيجد أن لفلان هذا أربعة كتب مثلاً؛ أحدها صدر سنة 2004 فيكون هو المرجع المقصود.
وهذه الطريقة لها مميزات كثيرة، منها توفير المساحة الورقية، وتخصيص الهامش للتعليقات الضرورية فقط، ومنها أن القراءة تسير متصلة دون أن تنتقل العين من المتن إلى الهامش عند كل رقم.
[يبدو أن هذه الطريقة (فلان،...،...) تستخدم حينما نكون قد ذكرنا اسم المرجع في أثناء تقديمنا لذكر النص؛ كأن تقول: يقول صاحب كتاب (...):«...» فيكون توثيقك (فلان،...،...). أما لو قلت: يقول (فلان): «...»فيكون التوثيق هكذا: (اسم الكتاب، الصفحة). والأخيرة أشهر. وقد يدمج البعض النص المستشهَد به في كلامه، دون أن يذكر اسم الكتاب أوصاحبه، مثلا: ...«...». وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون التوثيق هكذا: (فلان، اسم الكتاب، الصفحة). ويرى البعض أنه لا داعي لذكر الطبعة في أثناء التوثيق؛ ومن أراد تحقيقاً لشيء بين الطبعات.. فسيجد البيانات الوافية في فهرست المصادر].
وقد ترى الاستشهاد بآية قرآنية أو حديث شريف أو بيت شعر أو مَثَل من الأمثال، ولا بأس بذلك بل قد تكون فيه إضاءة لموضوعك، وفي هذه الحال لا بد عند ذكر الآية أن تبين رقمها واسم السورة التي وردت فيها [وأن تكتبها وَفق الرسم العثماني]، وكذلك موضع الحديث الشريف في كتب الحديث[وأن تضبطه]، والديوان الذي ذكر فيه بيت الشعر أوكتب الأمثال العربية التي ورد فيها المثل [في الشعر والأمثال: ينبغي أن تضبط الكلمات التي قد تبدو صعبة القراءة، وأن تفسرها إن كانت غامضة المعنى].
وعند الرجوع إلى الموسوعات العلمية، وكذلك إلى المعاجم اللغوية، لا تذكر الجزء والصفحة، بل اذكر فقط هذا المقال في الموسوعة، أو«المادة» في المعجم، فإذا أردت أن ترجع إلى كلمة «ضرائب» مثلاً في المعجم، فعليك أن تقول مثلاً: (لسان العرب: ض ر ب) فقط.
3- خاتمة المقال: وظيفتها تلخيص البحث، وتقديم النتائج، والتعليق عليها.
* * *
هذا هو الإطار العام للمقال العلمي، ومن الواضح أنك لا تستطيع أن تنجزه هكذا مرة واحدة، بل إن الكتابة - بعد أن تكون قد جمعت مادتك وصنفتها- تمر - في الأغلب- بأربعة مراحل:
1- ما قبل الكتابة.
2- التخطيط.
3- الكتابة والمراجعة.
4- الكتابة النهائية.
1- ما قبل الكتابة:
يجب ألا تهجم على كتابة موضوعك مرة واحدة؛ بل لا بد أن تفكر فيه أولاً على فترات زمنية، تحاول أولاً أن تحدد موضوعك تحديداً واضحاً دقيقاً، ويحسن أن يكون في «أضيق» نطاق ممكن، فلا تحاول أن تكتب عن موضوع «واسع» «فضفاض»، ثم تحاول أن تبحث عن العنصر المركزي في الموضوع وتجعله نقطة انطلاق لتوليد الأفكار، وهو نوع من «العصف الذهني» كما يقولون brain storming وهذه الخطوة مهمة جداً، ويجب أن تؤخذ بالصبر والمراجعة والأناة؛ لأنها سوف تساعدك ألا تغفل عن عنصر قد يكون مهماً، وألا تقع في ترتيب خاطئ في العناصر.
2- التخطيط:
احذر أن تكتب مقالاً علمياً دون تخطيط مسبق؛ وذلك بأن تختار العنوان الذي يدل على محتويات المقال، وتضع الإطارالعام له، وتحدد العناصر الرئيسية والفرعية.
3- الكتابة والمراجعة:
لا بد عند كتابة المقال البدء بمُسَوَّدة أو مُسَوَّدات، تراجعها أولاً من حيث التنظيم، والشكل، واختيار المفردات، والمصطلحات، وأنواع الجمل ... إلخ، ولا حرج عليك أن تفعل ذلك عدة مرات حتى تكتسب مهارة الكتابة الدقيقة.
4- الكتابة النهائية:
وهي النسخة الأخيرة بعد المراجعات السابقة، ولا بد -إذن- أن تكون دقيقة، واضحة، وأن تخرجها إخراجاً مقبولاً ومن الأفضل أن يكون إخراجاً جميلاً.
* * *
وهذه النسخة النهائية التي ستقدمها إلى أستاذك يجب أن يتوافر فيها -بعد كل ما بذلت من جهد في التفكير والتخطيط والتسويد والمراجعة- ما يلي:
1- الوحدة العضوية: أي إن المقال لا يعرض إلا لموضوع واحد لا يخرج عنه ولا يستطرد إلى موضوعات أخرى، كما أن وحدة «الفقرة» تعني أنها لا تحتوي إلا على «فكرة» واحدة.
2- التماسك: أي إن المقال كله يبدو مترابطاً لا يبدو فيه جزء منقطعاً عن
الأجزاء الأخرى، وكل فقرة فيه لا بد أن تُسْلِم إلى الفقرة الأخرى في يسر وسهولة، وهذا الذي يقال عن المقال كله يقال أيضاً عن كل فقرة التي يجب أن تتسم بالتماسك بأن تكون كل الجمل فيها مترابطة.
و«التماسك» مصطلح علمي ينقسم إلى نوعين:
أ - السّبك: cohesion ويعني ربط الفقرة كلها بروابط لفظية؛ كتكرار الأسماء المحورية في الموضوع، واستخدام الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، وأسماء الأماكن ... وغيرها.
ب - الحبك: coherence ويعني تنظيم الجمل تنظيماً منطقياً، عن طريق الترتيب: «أولاً، وثانياً ... وأخيراً»، أو عن طريق المقابلة: «من ناحية أخرى، وعلى العكس من ذلك ...» أوعن طريق التعليل: «لذلك - من أجل ذلك ...» ...
ثم يبدو التماسك الشكلي واضحاً فى طريقة كتابتك للفقرات؛ إذ يجب أن تبدأ كتابة كل فقرة بأن تترك مسافة على يمين الصفحة، وتأتي الأسطر التالية من أول الصفحة وهكذا.
وفي نهاية بحثك عليك أن تقدم قائمة بمراجعك وَفْقَ الأعراف العلمية المستقرة، ويحسن أن تذكر في كل مرجع: اسم المؤلف، في الغرب يبدأون باسم العائلة، وكذلك المصادر العربية القديمة، وبعض الباحثين يعمم ذلك مع المراجع الحديثة، وبعضهم يذكر الاسم الأول ثم بقية الاسم إلى اسم العائلة؛ وبعد اسم المؤلف تذكر عنوان الكتاب، ودار النشر، وسنة النشر.
* * *
ومهما يكن من أمر فإن كتابتك مقالاتك العلمية بالعربية سوف يساعدك مساعدة حقيقية في «تمثل» موضوعاتك، وفي «التعبير» عنها، وفي تحسين أدائك البحثيّ من بعدُ، كل ذلك وأنت ملتزم التزاماً كاملاً خصائص لغتك العربية التي درسناها معاً في هذا الكتاب الموجز وبخاصة في نظامها الصرفي من حيث صيغ «الكلمات»ووظائفها، وفي نظامها النحوي من حيث أنواع الجملة العربية ووظائفها كذلك، وفي نظامها الكتابيّ من حيث علامات الترقيم.
للدكتور عبده الراجحي - رحمه الله تعالى
الكتابة «أنواع» متعددة؛ فهناك الكتابة الشخصية حين يكتب «شخص»مذكراته الخاصة، أو يكتب إلى صديق، أو يعبر عن انطباعات معينة في موقف ما أو عن مسألة، وهناك المقال الصحفي الذى يعبر عن رأي أو اتجاه، وهناك الكتابة الأدبية من شعر ومسرح ورواية وقصة ... إلخ. ولكل نوع من هذه الكتابات «بنيتها» الخاصة، ومعجمها الخاص، وتراكيبها.
والمقال «العلمي» نوع من أنواع الكتابة له أيضاً خصائصه التي يجب أن تعرفها، وتتقنها، وأنت حين تكتب مقالاً علمياً أو بحثاً موجزاً عن موضوعٍ ما، أوتقريراً علمياً عن تجربة أجريتها في مختبر، أو عن بحث «ميداني»في موضوع اجتماعي أونفسي أوغير ذلك.. إنما تكتبه لتقدمه لأستاذك أو لأحد المتخصصين في الميدان، ومن ثم فإن المقال العلمي لابد أن يلتزم الخصائص الآتية:
1- أنه مقال «غير شخصي» لا تظهر فيه الاتجاهات الشخصية من حب أو كره أوتعصب أوغير ذلك.
2- ومن ثم فهو مقال «محايد» يخلو من النغمة الخطابية والتعبيرات الانفعالية والألفاظ الرنانة.
3- وهو لذلك ذو طبيعة «شكلية»formal يلتزم الأشكال المتعارف عليها في الفرع العلمي الذى تكتب فيه.
4- إن هذا الالتزام يرفض أنه يخلو المقال من «الحشو»redundancy والتزيد والمبالغة والاستطراد؛ كل ما فيه يجب أن يكون متصلاً بالموضوع relevant.
5- كل ذلك معناه أن المقال العلمي يجب أن يكون «موضوعيا»objective وليس «ذاتياً»subjective .
* * *
والمقال العلمي، أو البحث الموجز الذي يطلب منك في دراستك الجامعية، وسوف يكون ركنا أساسيا في دراستك العليا، قد يحتوي على صفحة واحدة، أوصفحتين أوعدة صفحات، ولا يمكن لك أن تكتبه من أوله إلى آخره متصلا كأنه قطعة واحدة، بل لابد أن يقسم إلى عدة «فقرات». فما الفِقْرة؟ وكيف تكتبها؟
الفقرة قطعة واحدة، متصلة، تترابط فيها الجمل، عن فكرة واحدة، ومعنى ذلك أنك تقسم مقالك إلى «أفكار» رئيسية، قد تتفرع عنها أفكار جزئية، وعليك أن تخصص لكل فكرة رئيسية فقرة واحدة تقدمها فيها.
والفقرة عادة تتكون من عدد متصل من الجمل، يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع:
1- جملة رئيسية أوجملتان؛ تقدم فيها الفكرة الرئيسية، وتحدد مجال الفكرة، وهي جملة «تقريرية» بطبيعتها، أي لا يجب أن تكون جملة انفعالية كالتعجب، ولا تكون جملة استفهامية.
2- جمل «داعمة» تشرح الجملة الرئيسية عن طريق تقديم الأمثلة، والإحصاءات، والاستشهادات، والأسباب.
3- جملة خاتمة، تلخص فيها مجمل الفقرة، وتبرز النقاط التي تريد التركيز عليها.
وكل فقرة يجب أن تتسم «بالوحدة»؛ أي تكون مقصورة على فكرة واحدة، كما تتسم «بالتماسك»، وسوف نشرح كل ذلك في كتابة المقال كاملا.
* * *
المقال العلمي إذن يتكون من عدة فقرات؛ وإذا كانت الفقرة لا تحتوي إلا على«فكرة»واحدة، فإن المقال أيضا لا ينبغي أن يحتوي إلا على موضوع واحد.
وما قيل عن «بنية» الفقرة يقال أيضا عن «بنية» المقال؛ فهو يتكون من ثلاثة أجزاء:
1- مقدمة المقال.
2- جسم المقال.
3- الخاتمة.
1- المقدمة : وظيفتها «التعريف» بالموضوع، وتحديد «مجاله»، ثم خطة البحث ومحتوياته، فماذا نعني بكل ذلك؟
إذا طلب منك أن تكتب مقالا عن «الطاقة» مثلا، فإنك تبدأ مقدمة بحثك بالتعريف «بالطاقة» ماذا يقصد بها باعتبارها مصطلحاً عند أهل الاختصاص.
غير أنك لا تستطيع أن تكتب مقالا عن «الطاقة» بصفة عامة، بل لابد أن تحدد مجال موضوعك: عن أيّ نوع من الطاقة سوف تكتب؟ الطاقة الشمسية، أو التعدينية، أوالمائية، أوالهوائية، أوالنووية... وهكذا. إن تحديد المجال في مقدمة مقالك أمر ضروري حتمي.
ثم تقدم خطتك في العرض، ومحتويات المقال، ومن الواضح أن المقدمة لابد أن تكتب في أسلوب تقريري على ما ذكرنا.
2- جسم المقال : وهو «صلب» المقال، وفيه «المعالجة» الكاملة لموضوعك، وهو يتكون من عدة فقرات، ولابد أن يكون «منظَّماً» يحكمه «تنظيم»دقيق، وهذاالتنظيم يكون في الأغلب:
أ - تنظيماً تاريخياً بأن تقدم لمحة تاريخية عن موضوعك، أوتتحدث عن«جهاز» معين من حيث تصميمه الأول وتطوره، أوإجراءات تجربة معينة عبر الزمن.
ب - تنظيماً منطقياً «يصنف» عناصر الموضوع، ويضم كل مجموعة مترابطة معًا، ويناقش كل مجموعة تلو الأخرى.
جـ - تنظيماً مقارنا يسعى إلى الكشف عن أوجه التشابه والاختلاف بين العناصر
وتحليلها.
وجسم المقال هو الذي يحتوي على الفقرات «الداعمة» التي تقدم الأمثلة، والوقائع، والإحصاءات، والاستشهادات، وهذه وظيفة مهمة جداً لجسم المقال؛ فالملاحظ أن المقال العلمي عند المبتدئين يفتقد القدرة على «إثبات»التقارير التي عرضوها في المقدمة، ومن ثم تغلب على كتابتهم«التعميمات» و«الآراء»، وكل ذلك منافٍ لطبيعة المقال العلمي.
وأنت مطالب إذن أن «تدعم» عرضك بأشياء مهمة، منها:
1- الأمثلة الواقعية؛ فالوقائع هي المطلوبة دائماً في العلم، وهي تعبير«موضوعي»عن الحقيقة.
2- الإحصاءات التي تكشف أن في يدك «معطيات» مجموعة جمعاً علمياً، يمكن تقديمها، وتفسيرأرقامها.
3- الاستشهادات، إذ لا يوجد باحث يعمل في فراغ، أو من غير سبق، بل كل باحث إنما يمثل حلقة واحدة في سلسة طويلة من الباحثين، ومن ثم لابد أن تدعم مقالك باستشهادات من السابقين عليك.
وأمامك فى الاستشهاد طرق مختلفة :
أ - أن تستشهد بكلام لأحد الباحثين استشهاداً حرفياً مباشراً دون تغيير في شيء منه، وهنا تقول مثلاً؛ قال فلان، أوأشار فلان، أو غير ذلك من العبارات [ثم تكتب فاصلة] ثم لا بد أن تضع علامات التنصيص «» في أول الأقوال المستشهد بها، وفي آخرها. فإذا كان المنقول أكثر من فقرة.. وضعت علامات التنصيص أول كل فقرة، ثم في نهاية النص المستشهد به.
وإذا رأيت أن تحذف من الكلام المستشهد به شيئاً لا يفيد عملك.. فيجب أن تبين ذلك بأن تضع نقاطاً بين هلالين هكذا (...)، أما إذا أردت أن تضيف شيئاً من كلامك أنت داخل النص المستشهد به.. فلا يجب أن يختلط به، ومن ثم عليك أن تضعه بين قوسين معقوفين [ ] ثم تستأنف الاستشهاد.
ب - ولك أن تستشهد بكلام أحد الباحثين استشهاداً غير مباشر، بأن تعرضه بلغتك أنت كأن تكون لغة الباحث قديمة أو معقدة التركيب أو لأي سبب آخر، ويجب في هذه الحال ألا تستعمل لفظًا من ألفاظ الباحث أو جمله نصاً.
جـ - ولك أن «تختصر» النص المستشهد به إذا حسبته طويلاً أو أردت أن تبرز المسائل المهمة فيه.
وفي الحالتين الأخيرتين ليس لك أن تستعمل علامات التنصيص «»، لكن لا بد من ذكر «المرجع» الذى استشهدت به.
التوثيق: وظيفته إثبات موضع الاستشهاد، أيْ إن أيَّ نقل تنقله، لا بد أن توثقه بإثبات مصدره، والشائع في الكتابات العربية وضع رقم بعد الاستشهاد ثم كتابة المرجع في هامش الصفحة، فيكون لكل صفحة أرقامها الخاصة، وبعض المجلات العلمية يفرض كتابة الهوامش والإحالات آخر البحث. والطريقة المعتمدة الآن في الغرب، وقد بدأ بعض الباحثين في بلادنا استخدامها- أن يكتب المرجع بعد النقل مباشرة داخل الصفحة؛ بأن تذكر اسم المؤلف والسنة، ثم رقم الصفحة، بين قوسين، هكذا: «...»(فلان، 2004، 115)، والقارئ يعرف الرجوع إلى ذلك بأن يراجع فهرست المراجع فسيجد أن لفلان هذا أربعة كتب مثلاً؛ أحدها صدر سنة 2004 فيكون هو المرجع المقصود.
وهذه الطريقة لها مميزات كثيرة، منها توفير المساحة الورقية، وتخصيص الهامش للتعليقات الضرورية فقط، ومنها أن القراءة تسير متصلة دون أن تنتقل العين من المتن إلى الهامش عند كل رقم.
[يبدو أن هذه الطريقة (فلان،...،...) تستخدم حينما نكون قد ذكرنا اسم المرجع في أثناء تقديمنا لذكر النص؛ كأن تقول: يقول صاحب كتاب (...):«...» فيكون توثيقك (فلان،...،...). أما لو قلت: يقول (فلان): «...»فيكون التوثيق هكذا: (اسم الكتاب، الصفحة). والأخيرة أشهر. وقد يدمج البعض النص المستشهَد به في كلامه، دون أن يذكر اسم الكتاب أوصاحبه، مثلا: ...«...». وفي هذه الحالة ينبغي أن يكون التوثيق هكذا: (فلان، اسم الكتاب، الصفحة). ويرى البعض أنه لا داعي لذكر الطبعة في أثناء التوثيق؛ ومن أراد تحقيقاً لشيء بين الطبعات.. فسيجد البيانات الوافية في فهرست المصادر].
وقد ترى الاستشهاد بآية قرآنية أو حديث شريف أو بيت شعر أو مَثَل من الأمثال، ولا بأس بذلك بل قد تكون فيه إضاءة لموضوعك، وفي هذه الحال لا بد عند ذكر الآية أن تبين رقمها واسم السورة التي وردت فيها [وأن تكتبها وَفق الرسم العثماني]، وكذلك موضع الحديث الشريف في كتب الحديث[وأن تضبطه]، والديوان الذي ذكر فيه بيت الشعر أوكتب الأمثال العربية التي ورد فيها المثل [في الشعر والأمثال: ينبغي أن تضبط الكلمات التي قد تبدو صعبة القراءة، وأن تفسرها إن كانت غامضة المعنى].
وعند الرجوع إلى الموسوعات العلمية، وكذلك إلى المعاجم اللغوية، لا تذكر الجزء والصفحة، بل اذكر فقط هذا المقال في الموسوعة، أو«المادة» في المعجم، فإذا أردت أن ترجع إلى كلمة «ضرائب» مثلاً في المعجم، فعليك أن تقول مثلاً: (لسان العرب: ض ر ب) فقط.
3- خاتمة المقال: وظيفتها تلخيص البحث، وتقديم النتائج، والتعليق عليها.
* * *
هذا هو الإطار العام للمقال العلمي، ومن الواضح أنك لا تستطيع أن تنجزه هكذا مرة واحدة، بل إن الكتابة - بعد أن تكون قد جمعت مادتك وصنفتها- تمر - في الأغلب- بأربعة مراحل:
1- ما قبل الكتابة.
2- التخطيط.
3- الكتابة والمراجعة.
4- الكتابة النهائية.
1- ما قبل الكتابة:
يجب ألا تهجم على كتابة موضوعك مرة واحدة؛ بل لا بد أن تفكر فيه أولاً على فترات زمنية، تحاول أولاً أن تحدد موضوعك تحديداً واضحاً دقيقاً، ويحسن أن يكون في «أضيق» نطاق ممكن، فلا تحاول أن تكتب عن موضوع «واسع» «فضفاض»، ثم تحاول أن تبحث عن العنصر المركزي في الموضوع وتجعله نقطة انطلاق لتوليد الأفكار، وهو نوع من «العصف الذهني» كما يقولون brain storming وهذه الخطوة مهمة جداً، ويجب أن تؤخذ بالصبر والمراجعة والأناة؛ لأنها سوف تساعدك ألا تغفل عن عنصر قد يكون مهماً، وألا تقع في ترتيب خاطئ في العناصر.
2- التخطيط:
احذر أن تكتب مقالاً علمياً دون تخطيط مسبق؛ وذلك بأن تختار العنوان الذي يدل على محتويات المقال، وتضع الإطارالعام له، وتحدد العناصر الرئيسية والفرعية.
3- الكتابة والمراجعة:
لا بد عند كتابة المقال البدء بمُسَوَّدة أو مُسَوَّدات، تراجعها أولاً من حيث التنظيم، والشكل، واختيار المفردات، والمصطلحات، وأنواع الجمل ... إلخ، ولا حرج عليك أن تفعل ذلك عدة مرات حتى تكتسب مهارة الكتابة الدقيقة.
4- الكتابة النهائية:
وهي النسخة الأخيرة بعد المراجعات السابقة، ولا بد -إذن- أن تكون دقيقة، واضحة، وأن تخرجها إخراجاً مقبولاً ومن الأفضل أن يكون إخراجاً جميلاً.
* * *
وهذه النسخة النهائية التي ستقدمها إلى أستاذك يجب أن يتوافر فيها -بعد كل ما بذلت من جهد في التفكير والتخطيط والتسويد والمراجعة- ما يلي:
1- الوحدة العضوية: أي إن المقال لا يعرض إلا لموضوع واحد لا يخرج عنه ولا يستطرد إلى موضوعات أخرى، كما أن وحدة «الفقرة» تعني أنها لا تحتوي إلا على «فكرة» واحدة.
2- التماسك: أي إن المقال كله يبدو مترابطاً لا يبدو فيه جزء منقطعاً عن
الأجزاء الأخرى، وكل فقرة فيه لا بد أن تُسْلِم إلى الفقرة الأخرى في يسر وسهولة، وهذا الذي يقال عن المقال كله يقال أيضاً عن كل فقرة التي يجب أن تتسم بالتماسك بأن تكون كل الجمل فيها مترابطة.
و«التماسك» مصطلح علمي ينقسم إلى نوعين:
أ - السّبك: cohesion ويعني ربط الفقرة كلها بروابط لفظية؛ كتكرار الأسماء المحورية في الموضوع، واستخدام الضمائر، وأسماء الإشارة، والأسماء الموصولة، وأسماء الأماكن ... وغيرها.
ب - الحبك: coherence ويعني تنظيم الجمل تنظيماً منطقياً، عن طريق الترتيب: «أولاً، وثانياً ... وأخيراً»، أو عن طريق المقابلة: «من ناحية أخرى، وعلى العكس من ذلك ...» أوعن طريق التعليل: «لذلك - من أجل ذلك ...» ...
ثم يبدو التماسك الشكلي واضحاً فى طريقة كتابتك للفقرات؛ إذ يجب أن تبدأ كتابة كل فقرة بأن تترك مسافة على يمين الصفحة، وتأتي الأسطر التالية من أول الصفحة وهكذا.
وفي نهاية بحثك عليك أن تقدم قائمة بمراجعك وَفْقَ الأعراف العلمية المستقرة، ويحسن أن تذكر في كل مرجع: اسم المؤلف، في الغرب يبدأون باسم العائلة، وكذلك المصادر العربية القديمة، وبعض الباحثين يعمم ذلك مع المراجع الحديثة، وبعضهم يذكر الاسم الأول ثم بقية الاسم إلى اسم العائلة؛ وبعد اسم المؤلف تذكر عنوان الكتاب، ودار النشر، وسنة النشر.
* * *
ومهما يكن من أمر فإن كتابتك مقالاتك العلمية بالعربية سوف يساعدك مساعدة حقيقية في «تمثل» موضوعاتك، وفي «التعبير» عنها، وفي تحسين أدائك البحثيّ من بعدُ، كل ذلك وأنت ملتزم التزاماً كاملاً خصائص لغتك العربية التي درسناها معاً في هذا الكتاب الموجز وبخاصة في نظامها الصرفي من حيث صيغ «الكلمات»ووظائفها، وفي نظامها النحوي من حيث أنواع الجملة العربية ووظائفها كذلك، وفي نظامها الكتابيّ من حيث علامات الترقيم.